كل هذا لا يلزم؛ لأن ظاهر القرآن أمرهم بالسجود له، وهذا السجود تعظيم لله -جل وعلا- لأنه امتثال أمره لا عبادة لآدم ولا سجود إلا لأمر الله -جل وعلا- والأمر إن كان ممتثلا به أمر الله فالمطاع فيه الله.
و.. أن ملك الموت يقال له: اقبض روح محمد - صلى الله عليه وسلم- وسائر الأنبياء فأي جريمة في الدنيا أعظم من قتل النبي- صلى الله عليه وسلم- ونزع روحه، وقتل الأنبياء والأولياء، لكن ملك الموت مأمور من الله فهو مطيع في ذلك الفعل؛ لأنه إنما فعله بأمر الله.
اسْجُدُوا لِآدَمَ قال بعض العلماء: إن الملائكة -صلوات الله وسلامه عليهم- لما عظموا أنفسهم، وحقروا بني آدم لما قال لهم الله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ثم أثنوا على أنفسهم، وقالوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ امتحنهم الله وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثم قال لهم: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ فعجزوا، وقالوا: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا .
ثم قال لـ آدم تعال أنت فبين هذا العلم الذي عجزوا عنه وجهلوه فقام آدم وبينها تماما؛ ولذا قال: قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وأن هذا الذي حقرتم يعلم ما لا تعلمون، وعنده من الخصال ما ليس لديكم.
وكلام العلماء في تفضيل الملائكة والآدميين لا يعنينا؛ لأن .. الناس مختلفون فيه، وكل يحتج لظواهر من كتاب الله، ولا دليل جازما يجب الجزم واليقين به، ولا حاجة تدعو إليه، واختلاف العلماء فيه معروف.
وعلى كل حال فالله أظهر فضل آدم هنا؛ حيث علمه ما جهله كل الملائكة، وأمرهم بالسجود، قال بعض العلماء: أمرهم بالسجود لما علم ما لم يعلموا، ويرشد له قوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا وبعد ذلك قال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ الآية.
وعلى هذا القول فالملائكة لما أمروا أن يسجدوا لآدم أُمر جميع الملائكة كما دل عليه قوله: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ واستثنى في جميع السور التي ذكر فيها سجود الملائكة بجميعها كالبقرة والأعراف، وطه، والحجر، وص كلها بين فيها سجود الملائكة إلا إبليس.
اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أي فسجدوا كلهم أجمعون بدليل قوله: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ إبليس هو الشيطان اللعين عليه لعائن الله.
ومنعه من الصرف؛ لأنه اسم أعجمي علم، والعجمة والعلمية يمنعان الصرف. وقال بعض العلماء: أصل إبليس عربي؛ لأنه إفعيل من الإبلاس، والإبلاس القنوط واليأس من رحمة الله حتى يبقى اليائس من شدة يأسه ساكتا لا يحير كلاما. منه قوله: فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ولكنه استدل على قولهم أنه لو كان أعجميا لأن العلم إذا وضع على إفعيل كان منصرفا؛ لأنه ليس فيه علتان مانعتان من الصرف.
وأجاب من قال هذا بأن إبليس أصله من الإبلاس، وهو القنوط واليأس من رحمة الله، ومنع من الصرف للعلمية وشبه العجمية؛ ولأن هذا اللفظ يشبه الألفاظ العجمية، هكذا يقولون. والأول أظهر.
وقوله: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ لم يسجد مع الملائكة.
ثم إن الله -جل وعلا- سأله سؤال توبيخ، وتقريع قال: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ .
قيل هنا وجهان: أحدهما أن مَا مَنَعَكَ مضمنة معنى فعل، ولا في بابها ليست زائدة أي ما ألجأك وأحوجك إلى ألا تسجد؟ ما المانع الذي ألجأك وأحوجك إلى ألا تسجد؟. وتضمين الفعل معنى فعل معروف، قال به عامة علماء النحو من البصريين.
وأظهر القولين في هذا أن لا هنا جيء بها لتأكيد النفي لأن مَنَعَكَ في معنى الجحود والنفي، وإتيان لا زائدة في الكلام الذي فيه معنى الجحد مطرد.
ذكر الفراء وغيره من علماء العربية أنه مطرد، والدليل على هذا أن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وقد قال -تعالى- في هذه القصة بعينها في سورة ص: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ولم يأت بلفظة لا، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، فعلمنا أن لفظة لا لتوكيد النفي.
واعلموا أن علماء العربية مطبقون على أن لفظة لا تزاد لتأكيد المعنى وتقويته. أما في الكلام الذي فيه معنى الجحد فلا خلاف بينهم في ذلك. وشواهده في القرآن وأمثلته كثيرة فمن أمثلته في القرآن: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ والمعنى: ليعلم أهل الكتاب فقد جيء بـلا لتوكيد المقام.
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ فوربك لا يؤمنون. قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي أي أن تتبعن، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ أي والسيئة على أشهر التفسيرين. وقوله جل وعلا: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ على أحد القولين.
وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ على أحد التفسيرين، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا على أحد التفسيرات التي قدمها في الآية.
وهذا كثير في كلام العرب، ومنه في كلام العرب قول أبي النجم في رجزه:
فمــا .................... لا تسـخرا
لمــا رأيــن الشمــط تفنجــرا
ما كان يرضى رسول الله دينهمو | والأقربان أبو بكر ولا عمر |
............................... | ............. برقـا كـأن وميضـه |
غـاب ............................ | ................................. |
تذكرت ليلـى فاعترتـني صبابـة | وكـاد ضمــير القلـب لا يتقطـع |